31‏/07‏/2012

قاعدة طرطوس من عهد السوفيت وحتى عهد الروس

الطراد الثقيل الحامل للطائرات "الأميرال كوزنيتسوف" في ميناء طرطوس في يناير عام 2012

طه عبد الواحد
إذا صحت تقديرات بعض المصادر الإعلامية التي استندت إلى ما جاء في تصريحات الأميرال فيكتور تشيركوف، القائد العام للأسطول البحري الحربي الروسي، فإن مجموعة جديدة من السفن الحربية الروسية تجوب في هذه الأيام البحر الأبيض المتوسط بالقرب من الساحل السوري، وتحديداً ليس ببعيد عن ميناء طرطوس حيث توجد قاعدة الدعم المادي والتقني للأساطيل البحرية الحربية الروسية.

وطرطوس مدينة ساحلية سورية يعرفها العالم تاريخياً فهي الميناء البحري الأهم في سورية الذي يشرف على البحر المتوسط ويطل عبره نحو أوروبا وقبرص ويشرف من الناحية الإستراتيجية على ممرين دوليين مهمين هما البوسفور وجبل طارق. عُرفت قديماً باسم أنترادوس نسبة لجزيرة آرادوس (أرواد حالياً) التي تقع قبالتها، والتي كانت حينها مركز مملكة فينيقية حكمت الساحل المجاور لها مدة طويلة. في العهد البيزنطي أصبح اسمها "طرطوسا"، بينما أصبحت المدينة في ظل حكم الصليبيين قاعدة هامة من الناحية العسكرية حيث تم الاستفادة منها كمركز رئيسي للتزود والتموين في شرق البحر الأبيض المتوسط. فتحها العرب عام 637م، وبقيت طيلة تاريخها القديم محط أطماع الغزاة والفاتحين نظراً للموقع الذي تشغله مطلة على المتوسط وتمتعها بساحل يسهل تحرك القوات البحرية فيه. أما أهم ما تتميز به طرطوس فهو أنها المدينة التي شُيدت فيها أول كنيسة في العالم تحمل اسم السيدة العذراء، ويقال أنها شاركت في بنائها.

الموقع الإستراتيجي الذي تتمتع به مدينة طرطوس على البحر الأبيض المتوسط يشكل السبب الرئيسي والأهم لتحركات غير مسبوقة تقوم بها الأساطيل الروسية في البحر الأبيض المتوسط، وتقوم بعض سفن هذه الأساطيل بزيارة لقاعدة الدعم المادي والتقني الروسية في ميناء طرطوس والتي تم تأسيسها منذ الثمانينات في العهد السوفيتي. وتشكل هذه القاعدة موقعاً على درجة من الأهمية بالنسبة لروسيا الاتحادية، تلعب دوراً هاماً في الحفاظ على موازين القوى الدولية، لاسيما في مجال السيطرة على البحار العالمية وعبرها على البر وعلى الممرات التجارية العالمية الرئيسية. والأهمية التي تشكلها القاعدة الروسية في طرطوس بالنسبة لروسيا الحديثة هي ذات الأهمية التي شكلتها بالنسبة للاتحاد السوفيتي حين خاض محادثات معقدة مع الجانب السوري ليحصل على هذه القاعدة.

معروف أن الاتحاد السوفيتي، حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي، لم يكن يولي القوات البحرية اهتماماً كبيراً وركز في الغضون على القوات التقليدية وقوة الردع النووية الصاروخية. بينما كانت الولايات المتحدة تمتلك أساطيل بحرية عملاقة تقوم على تقديم الخدمات التقنية والفنية لها، وحتى تزويدها بالعتاد العسكري في بعض الحالات ما يزيد عن 300 نقطة ارتكاز أو قاعدة ساحلية في شتى أرجاء العالم. ونظراً لأن البحر الأبيض المتوسط هو الأقرب من بحار العالم الدافئة إلى روسيا وأن للتواجد العسكري فيه تأثيرا كبيرا على موازين القوى الدولية فقد شعر السوفييت بالقلق بصورة رئيسية حيال موازين القوى في هذا البحر وفي الخليج والمحيط الهندي، أي المناطق التي وسعت الولايات المتحدة من الانتشار العسكري فيها خلال تلك الحقبة.

لكن بعد أن تمكن الاتحاد السوفيتي من تأسيس أسطول بحري حربي ضخم مع مطلع السبعينيات، وأُجريت مناورات أظهرت قدرة القوات البحرية السوفيتية على تدمير الأهداف المعادية في الولايات المتحدة وأوروبا، برزت نقطة ضعف لدى القوات البحرية الروسية نظراً لعدم امتلاكها قواعد ساحلية في أماكن إبحارها بعيداً عن الاتحاد السوفيتي، تزودها بالوقود والمؤن والعتاد وتقوم بتنفيذ أعمال الصيانة الدورية أو الطارئة عند الضرورة. في تلك المرحلة "كانت السفن السوفيتية تضطر إلى التوقف في أماكن يكون فيها عمق الماء متناسبا مع طول سلاسل المرساة، فتتوقف، ويتم إنزال حلقات من البراميل العائمة حول القطعة البحرية (لتشكل رصيفاً عائماً)، وفي هذه الوضعية يجري الطاقم عمليات التصليح أو الترميم"، حسب قول الأميرال سيرغي غورشكوف قائد سلاح البحرية السوفيتي.

لهذا بدأ السوفيت التفكير جدياً في ضرورة افتتاح قاعدة تخديم بحرية تخفف من هذه الأعباء على قواتها العاملة في البحار والمحيطات العالمية، ووقع الخيار على مدينة طرطوس، لعدة أسباب ذكرها الدبلوماسي السوفييتي السابق أوليغ غرينيفسكي في مذكراته عن مرحلة الثمانينيات، وهذه الأسباب هي:" أولاً: كما يقول رجال البحرية، فإن مضيق البوسفور ومضيق جبل طارق سيكونان في متناول اليد، ما يعني أن وجود هذه القاعدة سيمكنهم من التحكم بالمضيقين الاستراتيجيين ومراقبة التحركات عبرهما. ثانياً: إقامة قواعد في سورية ستؤدي إلى تكوين مركز ثقل مضاد للقواعد الأميركية، ولمختلف أنواع تسلحها بما في ذلك الأسلحة الصاروخية- النووية، ويكون مركز الثقل المضاد هذا مشرفاً على المناطق جنوب الاتحاد السوفيتي، أي البحر الأبيض المتوسط والخليج. ثالثاً: يتوقع أن تنتج عن إقامة قواعد في سورية زيادة تأثير ونفوذ الاتحاد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط، حيث التنافس الأميركي- السوفيتي ما زال مستمرا على المنطقة"، وفق ما جاء في مذكرات غرينيفسكي في كتابه بعنوان "سيناريو حرب عالمية ثالثة كيف كادت إسرائيل أن تكون سببها".

اليوم لا يبدو أن أسباب حاجة روسيا إلى قاعدتها في طرطوس قد تغيرت، وهي ذات الأسباب المذكورة التي دفعت السوفيت إلى الاستفادة من علاقاتهم مع سورية وتحديداً حاجة الرئيس السوري حافظ الأسد إلى مزيد من الدعم السوفيتي ليوافق على منحهم هذه القاعدة في الثمانينات. وليست أسباب الحاجة إلى قاعدة طرطوس وحدها التي تشكل عاملاً مشتركاً بين توجهات السياستين السوفيتية في ذلك الحين والروسية في الفترة الحالية، ذلك أن روسيا الحديثة، حالها حال الاتحاد السوفيتي تتجنب أي عمل أو خطوة قد يفهمها الجانب الأميركي بصورة خاطئة، أو قد تؤدي إلى التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.

ففي العهد السوفيتي، عندما كان أندري غروميكو وزيراً للخارجية برز حرص شديد على عدم القيام بأي خطوات أو إطلاق أية عبارات قد يفسرها الجانب الأميركي بصورة خاطئة. لذلك قرر غروميكو إطلاق تسمية "مركز دعم مادي وتقني" على القاعدة في طرطوس، الأمر الذي أثار غضب الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف وهو يقرأ نصاً كُتب له خلال لقائه الرئيس حافظ الأسد في زيارة للرئيس السوري إلى موسكو ربيع عام 1981، فأصر بريجنيف على تسميتها قاعدة، متجاهلاً توضيحات الوزير غروميكو بأن اختيار التسمية جاء كي لا نستفز الأميركيين فيسارعون إلى افتتاح قواعد بحرية لهم في المنطقة.

وفي تصريحات المسؤولين الروس في أيامنا هذه يوجد الكثير من الحذر تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة لعل آخرها تصريحات الرئيس الروسي التي قال فيها إن روسيا لا تريد خوض سباق تسلح جديد لكنها تعمل على تقوية قدراتها العسكرية. وهناك أيضاً التضارب في تصريحات قيادة القوات البحرية الروسية بشأن مصير قاعدة طرطوس، إذ لم يستبعد الأميرال تشيركوف، قائد القوات البحرية الروسية احتمال إجلاء العسكريين الروس المتواجدين في قاعدة طرطوس في حال تعرض هذه المنشأة لاعتداء مسلح، وهو الذي أكد في تصريحات سابقة "إن البحرية الروسية ستحافظ على القاعدة في ميناء طرطوس التي نحتاجها لإمداد سفننا".

الآن وبغض النظر عما يريده قائد القوات البحرية الروسية أو ما قاله في تصريحاته، فإن القطع الحربية البحرية الروسية المنتشرة قبالة الساحل السوري توضيح لما تريده روسيا أقوى وأدق من أية تصريحات. إذ أن الاتحاد السوفيتي وجد في امتلاكه لهذه النقطة المهمة على ساحل المتوسط عنصرا رئيسيا في معادلة ميزان القوى مع الغرب، وهي تشكل ذات الأهمية بالنسبة لروسيا لذلك يبدو أن موسكو عازمة على الاحتفاظ بالقاعدة بأي ثمن، لأنها الوحيدة للقوات البحرية الروسية خارج روسيا (باستثناء مقر أسطول البحر الأسود الروسي في ميناء سيفاستوبل في أوكرانيا)، ولأن خسارتها ستؤدي إلى ظهور نقطة ضعف مؤثرة جداً على القدرة القتالية للأساطيل الروسية، لاسيما وأن التنافس الأميركي الروسي ما زال مستمراً وكأنه إرث من مرحلة التنافس الأميركي - السوفيتي.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق